(( ملحوسة ... آآآ ...ملحوظة : النص يتناول فكرة فلسفية ما من وجهة نظر مختلفة قد لا تكون مطابقة لوجهة نظر الكاتب ... اللي هو أنا !!! :) ))
وجه الفأر ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه حياة قاسية ...
هكذا كان يقول والدي لي دوما قبل أن يذهب إلى حيث يذهب الأموات ...
لقد عذبني كثيرا هذا الرجل ... من الجيد أن تتخلص من ذلك الذباب الذي ينغص عليك حياتك ...
اها .. نسيت أن أعرفك بنفسي ... أنا رجل آخر يعيش في هذا الزمان ...
اسمي ؟ ... وهل يهمك ذلك في شيء ؟ ... لن أخبرك باسمي طبعا ... ولا بأوصافي ... علك تلقاني يوما في مكان ما ... لا أريدك أن تتعرفني ...
أريد أن ترى مني ما رآه الآخرون ...
ماذا ؟ ... اصبر قليلا واخلع عنك عباءة التعجل التي جعلتك إنسانا أبله ...
عفوا ... تراني أكلمك بلا ذوق ولا أدب ... وما المشكلة ؟ ... وما الذي أخذته أنت من ذوقك وأدبك ؟!!
أنا هكذا ... إن أردت إكمال القراءة فاستمر ... وإن لم ترد فذلك لا يعنيني في شيء ....
لا تقاطعني من فضلك .... دعني أتحدث ...
اممممم ... كنت أعرفك بنفسي ... إذا أنا رجل في العقد السادس من عمري .... عشت حياة امتلأت بكل شيء في هذه الدنيا ... حتى مللت ...
(( سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ..... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم ))
طبعا ( طلعت على المعاش ) كما يقال ....
ومن يومها أجلس يوميا في شرفتي ... أطالع الناس وأرتشف قهوتي السادة وسيجارتي الرخيصة التي أعرف أنها تقتلني كل يوم ...
اللعنة على غرور وجهل ذلك الشاب .... يدخن سيجارته ذات (الفلتر ) الملون و السعر الأغلى والطعم الأفضل وكأنها ستنقذه أو ستأخر عنه سرطان الرئة أو الفم ... الخ أنواع السرطانات ....
أحمق آخر ....
فليصب بسرطانه بكل هدوء بدلا من تلك المنظرة الفارغة ...
اللعنة ! وماذا في ذلك ؟ .... إن القبور تمتلئ بمن اعتقدوا أن الحياة لن تستمر بدونهم ... لست أحمقا من هؤلاء ...
نسيت أن أخبرك أنني مصاب بسرطان الرئة ... بالمختصر أنا أموت ببطء ...
حاولوا منعي من التدخين لكن ليذهبوا بنصائحهم إلى الجحيم ... لا آبه بأي منهم ...
سأظل كما أريد ...
لحظة...دعني أطالع ذلك الشيخ المدعي الذي يتجه إلى المسجد ...
ياللهول ... قد كان هذا يوما يقف على ناصية حارتنا ليدخن المخدرات ويشرب الكحوليات ...
قد كان منذ مايقارب الأربعين سنة يصاحب فتيات المنطقة ... ويذوب عشقا فيهن ....
ها هو الآن وقد أطلق لحيته ولبس جلبابه وكأنه بذلك محا ماضيه الأسود ...
قصر عقل وقصر نظر ...
لا تناقشني من فضلك فيما أقول ... فأنا أقول ما أراه صحيحا ... بل ما أعرف أنه هو الحق ...
دعني أحكي لك شيئا عما فعلته خلال حياتي الطويلة ....
في الواقع لم أفعل شيئا ....
ليت السبب في أنني لم أفعل شيئاً راجع إلى كسلي ...ياللهول ...!
لو كان الأمر كذلك لكنت أحترم نفسي.....
كنت سأحترم نفسي لأنني سأكون قادراً على الأقل أن أكون كسولاً، وكنت سأمتلك ميزة واحدة على الأقل ، ميزة إيجابية إلى حد ما، يمكنني أن أصدق نفسي بها...
فإذا سأل أحد: من أكون؟
قيل له: كسول !وكم يكون ممتعاً إن سمع المرء هذا يقال عنه!
بل إن هذا سيعني تعريفاً إيجابياً بي، وسيعني أن هنالك شيئاً يمكن أن يقال عني.
في الواقع أنا لا أحترم نفسي ...
ولا أحترمك ــ عزيزي القارئ ــ بكل تأكيد ....
قل ما تريد عني ... فيكفيني فخرا أن سلبت وقتك وجعلتك تتحدث عني في زمن سقطت فيه من على هامش الصفحة فلم أظهر حتى في المسودة ...
كنت أعمل مدرسا في أحد المدارس الخاصة ...
نعم .. مدرس ...
كنت أدرس اللغة العربية .... أقبح لغة قرأتها وعرفتها ...
أتعلم لماذا ؟ ... لأنني كنت أدرسها ...
كنت أمارس ساديتي المفرطة على الطلبة ...
كنت أقتل في الطالب المجتهد اجتهاده ... ولم أجعل منه مجتهدا ؟
أمن أجل أن يدخل إلى كلية من كليات القمة فيصبح ذو شأن أعلى مني ؟
فليعش فأرا كما كنت أنا طيلة حياتي ...
فأر !!
تمنيت أن أحمل صفة ... أي صفة يمكن أن يطلقها أحدهم علي فأستشعر قيمة لنفسي ...
فلم أجد غير تلك الصفة إذ نعتني بها مدرس زميل ذات مرة بعد أن تسليت بإفساد شيء ما له ... لا أتذكره في الواقع ....
قال لي في حقد ظهر جليا على ملامحه :
ــ أنت فأر ... بل أنت أدنى من الفأر ... إذ إنه يخرب للوصول لهدف ... بينما تخرب أنت من أجل لا شيء ...
وتعود للاختباء في جحرك البغيض القذر .... أنت أسوأ من فأر ....
سمعت كلماته وأنا ابتسم .. ها قد وجدت لنفسي نعتا ... تخيلت نفسي وأنا مرسوم بعرض حائط والعضلات ظاهرة على ذراعي وصدري وقد كتب تحت صورتي Mouse Man ...
أعجبتني الصورة الكارتونية ...
بعد لحظات اعتراني شعور بأنني أريد الانتقام ... أبحث عنه ... لم يعطي نفسه هذا الشيء حقا في انتقادي ؟...
صمت لحظات أفكر ... لكنني فأر ...
هل الانتقام من شيم الفئران ؟
لا أعتقد ...
إذن دعني أعود إلى جحري ...
وأختبئ ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقول لي : لم لم تحاول أن تكون أفضل من ذلك ؟
أعرف ما تتكلم عنه ... السمعة الطيبة التي كانت ستلاحقني وأنا أجلس في شرفتي هنا أتحسس كرشي الكبير وأحك أنفي العريض بين الحين والآخر ...
أعرف ما تتكلم عنه بكل تأكيد ... لكن ما تقوله أنت هي محض أحلام روائية ...
بالله عليك هل أنت مقتنع فعلا أنك لو تركك الشيطان في حالك لأصبحت أفضل حالا ؟!
لو كنت كذلك فأنت واهم فعلا ... يا لغرور الإنسان .... يعلق أخطاءه كلها على شماعة الشيطان المسكين ...
وكأن الإنسان لا يمكن أن يخطئ وحده ...
مادام مقتنعا بذلك فهو أسوأ إنسان في الوجود ...
على الأقل أنا أعرف أني إنسان حقير .... فأر ...
وعلى هذا الأساس أتعامل وأتصرف ...
ولست أتخايل أمام الناس بملائكيتي وعندما أغلق على نفسي بابي أسارع بممارسة أخطائي ...
أنا شجاع ...
ها قد وجدت لنفسي نعتا آخر ....
لكن نعت الفأر أفضل ...
إذا ما زلت أنا فأرا ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصر بلد الحضارة...
حضارتنا منذ سبعة آلاف سنة ...
هذا ما تعلمه شعبنا البغيض من صغره .... كذبة أخرى كذبناها ومن ثم صدقناها ....
يقول علماء الاجتماع أن كلما زادت حضارة الفرد كلما زادت رقته ونعومته في التعامل مع الحياة ...
باختصار الإنسان المتحضر في العرف هو ( الجنتل ) ... متفتح الفكر .... أنيق .. ناعم ! .. عريق وأصيل ... و( كلاسيك) ..!
في الواقع كل ما يقوله هؤلاء العلماء محض هرطقة وسفسطة ....
إن كل ما كسبه الإنسان من الحضارة هو مقدرة أشد على تحمل أنواع جديدة من المؤثرات الشديدة – ليس أكثر.
وبتطور هذا التعدد فإن الإنسان قد يجد تلذذاً في سفك الدماء...
بل إن هذا هو ما حدث له بالفعل....
ترى هل لاحظت ذلك بالفعل عزيزي القارئ ؟
أن أشد الناس حضارة هم أمهرهم في الذبح والسفك؟
وعلى أية حال فإذا لم تجعل الحضارة من الإنسان أشد تعطشاً إلى الدماء فإنها على الأقل جعلت تعطشه
للدماء أشد شراً وأكثر قذارة. فقد كان الإنسان في الماضي يرى سفك الدماء عدلاً، وكان يقتل من يظنهم يستحقون وهو مرتاح الضمير...
أما الآن!
ففي الوقت الذي نعتقد فيه بأن سفك الدماء أمر مكروه فإننا نشترك في هذا الأمر المكروه، وباندفاع أكثر
من ذي قبل...
فأي الوضعين هو الأسوأ؟... لكم أن تقررا ذلك بأنفسكم ...
يقولون أن كليوباترا ــ واسمحوا لي بأن أضرب مثلاً من تاريخنا ــ كانت مولعة بغرس الدبابيس الذهبية
في أثداء وصيفاتها، وكانت تتلذذ وتستمتع بصرخاتهن وبعذابهن....
قد تقولون أن ذلك حدث في العهود التي تعتبر بربرية بالنسبة لعهدنا، وقد تقولون بأن عهدنا بربري أيضاً، لأن الدبابيس ما تزال تغرس حتى اليوم، وأنه رغم أن الإنسان تعلم أن يرى الأمور بوضوح أشد مما كان يراها به في العصور البربرية فإنه ما يزال غير قادر على التصرف وفق ما يمليه عليه العقل والعلم...
كلمني إذا عن حضارتنا العظيمة ...
وكلمني عن شعبنا الذي يدّعون أنه الشعب الطيب ... وكل ما تقرأه يوميا في صفحة الحوادث يخبرك أن بداخل كل فرد في شعبنا تلك الطاقة الشيطانية التي تحركها غرائز الإنسان ... وليس الشيطان كما أسلفت ...
صدقت أمي وإن كانت كاذبة حين قالت (( الشعب ده حياكل ف بعضه قريب )) ...
وإن غدا لناظره قريب ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل شعرت يوما عزيزي القارئ أن هذا الزمن استغفلك ؟
أنا يملؤني هذا الشعور ... أشعر أن الزمن وعلى غفلة مني مر سريعا وتركني بقايا إنسان ...
أو بقايا فأر إن أردنا الدقة ...
إن سألتني عما فعلته في حياتي ستكون إجابتي لا شيء ... ربما لم أقدر حتى أن أكون فأرا ...
كنت يوما ما مفعم بالحماس لأفعل شيء ... أيا كان هذا الشيء حتى لو كان سيئا .... كنت أتمنى حتى أن أحاول جعل العالم مكانا أسوأ لا أفضل ... على الأقل سيقال أنني حاولت فعل شيء ما ... لا أنني مررت على هذه الدنيا وخرجت منها خالي الوفاض ... لا لي ولا علي ... ربما كان علي بعض الأشياء ... لكنها بدون قيمة بكل تأكيد ، أعرف أني سألقى مصيرا أسودا بعد مماتي ، لكني حصان خاسر كما يقولون ...
هذا السبق ليس لي من البداية ، فلم التعب ؟ ..
وها أنا تدور بي الدوائر لأجلس هنا أخيرا في شرفة منزلي القذر أتأمل ...
أعرف أني أبدو لك مختلا لكنك في الواقع ــ عزيزي القارئ ــ أنت المختل ...
هناك الكثير في الواقع يفعلون ما أفعل ويفكرون فيما أفكر لكن لا يعتزون بآرائهم وتوجهاتهم في الحياة..
ويوما ما عزيزي القارئ ــ إن كنت شابا ــ سترى أن الدنيا تذهب إلى هذا التوجه ...
إن لم تكن قد ذهبت إليه الآن ...
لست مختلا يا عزيزي ... ولست فأرا...
ويوما ما ستعلم ....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ولو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقولتي فعذلتنــــي وعلمت أنك جاهل فعذرتـــكا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجلس في شرفتي ... أرتشف شايا ثقيلا ... وأدخن سيجارتي الرخيصة ...
هاأنذا بعد العديد والعديد ... لا جديد ...
تمر علي الأيام وأنا جالس كما أنا أتطلع بعينين متحجرتين على الشارع وأسب العالم كله في صدري وأدخن ...
اليوم تمنيت أن أكون مختلفا ...
تمنيت أن أتغير لأيام علّي أجد متعة ما ...
أو أصبح شيئا ما ...
ماذا لو قمت فصليت ؟؟؟ إنه بداية لتغيير مناسب وإن لم أقتنع به ...
هببت واقفا من مكاني بسرعة قبل أن أشعر بشيء الخنجر يمزق قلبي ....
دائرة سوداء تخرج من مركز العين وتتسع رويدا رويدا....
ألم قاتل ... عيني لا ترى شيئا ... تميد بي الأرض من حولي ... أحاول التمسك بأي شيء ... تدور بي الدنيا وأسقط على الأرض ...
إنني أموت ... ظننت هذا واضحا ...
اعتراني خوف رهيب والموجودات تتلاشي من حولي ...
الآن أعرف أنني كنت مخطئا ...
وأني لم أملك وجه إنسان قط ... فهناك وعلى الزجاج العاكس على باب شرفتي أرى وجهي جيدا ...
وجه فأر ...!
إبراهيم إيهاب